كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (37)}.
ف آدَمُ مرفوع والكلمات في موضع نصب. وقد قرأ بعض القرّاء: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فجعل الفعل للكلمات، والمعنى- واللّه أعلم- واحد لأن ما لقيك فقد لقينه، وما نالك فقد نلته. وفى قراءتنا: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وفى حرف عبد اللّه: {لا ينال عهدى الظّالمون}.
وقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ (40)}.
المعنى لا تنسوا نعمتى، لتكن منكم على ذكر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه- واللّه أعلم- على هذا: فاحفظوا ولا تنسوا. وفى حرف عبد اللّه: {ادّكروا}. وفى موضع آخر: {وتذكّروا ما فيه}. ومثله في الكلام أن تقول: اذكر مكانى من أبيك.
وأمّا نصب الياء من: {نِعْمَتِيَ} فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان:
الإرسال والسّكون، والفتح، فإذا لقيتها ألف ولام، اختارت العرب اللغة التي حرّكت فيها الياء وكرهوا الأخرى لأن اللّام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: نعمتى التي، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما. وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام وقد قال الله: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب.
وأمّا قوله: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}. فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهى محذوفة وعلى هذا يقاس كل ما في القرآن منه. وقوله: {فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْر مِمَّا آتاكُمْ} زعم الكسائىّ أن العرب تستحبّ نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} و: {إِنِّي أَخافُ اللَّهَ}. ولم أر ذلك عند العرب رأيتهم يرسلون الياء فيقولون: عندى أبوك، ولا يقولون: عندى أبوك بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة في الياء في هذا ومثله. وأما قولهم: لى ألفان، وبي أخواك كفيلان، فإنهم ينصبون في هذين لقلتهما، فيقولون: بي أخواك، ولى ألفان، لقلتهما والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد.
وقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا (41)}.
وكل ما كان في القرآن من هذا قد نصب فيه الثّمن وأدخلت الباء في المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتى في الشيئين لا يكونان ثمنا معلوما مثل الدنانير والدراهم فمن ذلك: اشتريت ثوبا بكساء أيّهما شئت تجعله ثمنا لصاحبه لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدّور وجميع العروض فهو على هذا. فإن جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثّمن، كما قال في سورة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} لأن الدراهم ثمن أبدا، والباء إنما تدخل في الأثمان، فذلك قوله: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} {اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ} {اشتروا الضلالة بالهدى} {وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ} فأدخل الباء في أىّ هذين شئت حتى تصير إلى الدنانير والدراهم فإنك تدخل الباء فيهن مع العروض، فإذا اشتريت أحدهما يعنى الدنانير والدراهم بصاحبه أدخلت الباء في أيّهما شئت لأن كل واحد منهما في هذا الموضع بيع وثمن، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العروض وبين الدراهم، فإنك تعلم أن من اشترى عبدا بألف درهم معلومة، ثم وجد به عيبا فردّه لم يكن له على البائع أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عبدا بجارية ثم وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العروض ليست بأثمان.
وقوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاع إِلى حِينٍ (36)} فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم وإبليس، وقال: {اهْبِطُوا} يعنيه ويعنى ذرّيته، فكأنه خاطبهم. وهو كقوله: {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ}. المعنى- واللّه أعلم- أتينا بما فينا من الخلق طائعين. ومثله قول إبراهيم: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}. ثم قال: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} وفى قراءة عبد اللّه {وأرهم مناسكهم} فجمع قبل أن تكون ذرّيته. فهذا ومثله في الكلام مما تتبيّن به المعنى أن تقول للرجل: قد تزوّجت وولد لك فكثرتم وعززتم.
وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْس عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا (48)}.
فإنه قد يعود على اليوم والليلة ذكرهما مرّة بالهاء وحدها ومرة بالصّفة فيجوز ذلك كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئا وتضمر الصفة، ثم تظهرها فتقول: لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا. وكان الكسائىّ لا يجيز إضمار الصفة في الصلات ويقول: لو أجزت إضمار الصفة هاهنا لأجزت: أنت الذي تكلمت وأنا أريد الذي تكلمت فيه. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء ولا تكون، وإنما يضمر في مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدنى بعض العرب:
يا ربّ يوم لو تنزّاه ** حول ألفيتنى ذا عنز وذا طول

وأنشدنى آخر:
قد صبّحت صبّحها السّلام ** بكبد خالطها سنام

في ساعة يحبّها الطّعام ولم يقل يحبّ فيها. وليس يدخل على الكسائىّ ما أدخل على نفسه لأن الصفة في هذا الموضع والهاء متّفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يوم الخميس، وفى يوم الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتك كان غير كلّمت فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان في ولا إضمار في مكان الهاء.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ (41)}.
فوحّد الكافر وقبله جمع وذلك من كلام العرب فصيح جيد في الاسم إذا كان مشتقّا من فعل، مثل الفاعل والمفعول يراد به ولا تكونوا أوّل من يكفر فتحذف من ويقوم الفعل مقامها فيؤدّى الفعل عن مثلما أدّت من عنه من التأنيث والجمع وهو في لفظ توحيد. ولا يجوز في مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضل رجل، ولا أنتما خير رجل لأن الرجل يثّنى ويجمع ويفرد فيعرف واحده من جمعه، والقائم قد يكون لشئ ولمن فيؤدّى عنهما وهو موحّد ألا ترى أنك قد تقول: الجيش مقبل والجند منهزم، فتوحّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجال والجند رجال ففى هذا تبيان وقد قال الشاعر:
وإذا هم طعموا فألأم طاعم ** وإذا هم جاعوا فشرّ جياع

فجمعه وتوحيده جائز حسن.
وقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} إن شئت جعلت: {وَتَكْتُمُوا} في موضع جزم تريد به: ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ولا تكتموا الحقّ، فتلقى: {لا} لمجيئها في أوّل الكلام. وفى قراءة أبىّ: {ولا تكونوا أوّل كافر به وتشتروا بآياتى ثمنا قليلا} فهذا دليل على أنّ الجزم في قوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} مستقيم صواب، ومثله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ} وكذلك قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وإن شئت جعلت هذه الأحرف المعطوفة بالواو نصبا على ما يقول النحويّون من الصّرف فإن قلت: وما الصّرف؟
قلت: أن تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوّله حادثة لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصّرف كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتى مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

ألا ترى أنه لا يجوز إعادة: {لا} في: {تأتى مثله} فلذلك سمّى صرفا إذ كان معطوفا ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب وهى معطوفة على مرفوع قولهم: لو تركت والأسد لأكلك، ولو خلّيت ورأيك لضللت: لمّا لم يحسن في الثاني أن تقول: لو تركت وترك رأيك لضللت تهبّيوا أن يعطفوا حرفا لا يستقيم فيه ما حدث في الذي قبله. قال: فإنّ العرب تجيز الرّفع لو ترك عبد اللّه والأسد لأكله، فهل يجوز في الأفاعيل التي نصبت بالواو على الصّرف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصّرف؟ قلت: نعم العرب تقول: لست لأبى إن لم أقتلك أو تذهب نفسى، ويقولون: واللّه لأضربنّك أو تسبقنّى في الأرض، فهذا مردود على أوّل الكلام، ومعناه الصّرف لأنّه لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بلم، ولا إعادة اليمين على واللّه لتسبقنّى، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام. والصّرف في غير: {لا} كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه.
وقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها (72)}.
وقوله: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ} يقول القائل: وأين جواب: {إِذْ} وعلام عطفت؟ ومثلها في القرآن كثير بالواو ولا جواب معها ظاهر؟ والمعنى- واللّه أعلم- على إضمار: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ} أو: {إذ كنتم} فاجتزئ بقوله: {اذْكُرُوا} في أوّل الكلام، ثم جاءت: {إِذْ} بالواو مردودة على ذلك. ومثله من غير: {إِذْ} قول اللّه: {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا} وليس قبله شيء تراه ناصبا لصالح فعلم بذكر النبي صلى اللّه عليه وسلّم والمرسل إليه أنّ فيه إضمار أرسلنا، ومثله قوله: {وَنُوحًا إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ} {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا} {وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} يجرى هذا على مثل ما قال في ص: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ} ثم ذكر الأنبياء الذين من بعدهم بغير: {وَاذْكُرْ} لأنّ معناهم متّفق معروف، فجاز ذلك. ويستدل على أنّ: {واذكروا} مضمرة مع {إِذْ} أنه قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيل مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} فلو لم تكن هاهنا: {وَاذْكُرُوا} لاستدللت على أنّها تراد لأنّها قد ذكرت قبل ذلك. ولا يجوز مثل ذلك في الكلام بسقوط الواو إلّا أن يكون معه جوابه متقدّما أو متأخّرا كقولك: ذكرتك إذ احتجت إليك أو إذ احتجت ذكرتك.
وقوله: {فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} يقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا، مستورين بما اكتنفهم من البحر أن يروا فرعون وغرفة، ولكنّه في الكلام كقولك: قد ضربت وأهلك ينظرون فما أتوك ولا أغاثوك يقول: فهم قريب بمرأى ومسمع. ومثله في القرآن: {ألَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} وليس هاهنا رؤية إنّما هو علم، فرأيت يكون على مذهبين: رؤية العلم ورؤية العين كما تقول: رأيت فرعون أعتى الخلق وأخبثه، ولم تره إنما هو بلغك ففى هذا بيان.
وقوله: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (51)}.
ثم قال في موضع آخر: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين وأتمّها بالعشر والأربعون قد تكمل بعشرين وعشرين، أو خمسة وعشرين وخمسة عشر؟ قيل: كان ذلك- واللّه أعلم- أنّ الثّلاثين كانت عدد شهر، فذكرت الثلاثون منفصلة لمكان الشّهر وأنّها ذو القعدة وأتممناها بعشر من ذى الحجة، كذلك قال المفسّرون.
ولهذه القصّة خصّت العشر والثلاثون بالانفصال.
وقوله: {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} ففيه وجهان:
أحدهما:
أن يكون أراد وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى التوراة، ومحمدا صلى اللّه عليه وسلّم الْفُرْقانَ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وقوله: {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} كأنّه خاطبهم فقال: قد آتيناكم علم موسى ومحمد عليهما السلام: {لعلكم تهتدون} لأن التوراة أنزلت جملة ولم تنزل مفرّقة كما فرّق القرآن فهذا وجه.
والوجه الآخر:
أن تجعل التوراة هدى والفرقان كمثله، فيكون: ولقد آتينا موسى الهدى كما آتينا محمّدا صلى اللّه عليه وسلّم الهدى. وكلّ ما جاءت به الأنبياء فهو هدى ونور. وإنّ العرب لتجمع بين الحرفين وإنّهما لواحد إذا اختلف لفظاهما كما قال عدىّ بن زيد:
وقدّمت الأديم لراهشيه ** وألفى قولها كذبا ومينا

وقولهم: بعدا وسحقا، والبعد والسّحق واحد، فهذا وجه آخر. وقال بعض المفسّرين: الكتاب التّوراة، والفرقان انفراق البحر لبنى إسرائيل. وقال بعضهم:
الفرقان الحلال والحرام الذي في التّوراة.
وقوله: {الْمَنَّ وَالسَّلْوى (57)}.
بلغنا أن المنّ هذا هذا الذي يسقط على الثّمام والعشر، وهو حلو كالعسل وكان بعض المفسّرين يسمّيه التّرنجبين الذي نعرف. وبلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم قال: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين». وأما السّلوى فطائر كان يسقط عليهم لما أجموا المنّ شبيه بهذه السّمانى، ولا واحد للسّلوى.
وقوله: {وَقُولُوا حِطَّة (58)}.
يقول- واللّه أعلم- قولوا: ما أمرتم به أي هي حطة فحالفوا إلى كلام بالنّبطية، فذلك قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}.
وبلغني أنّ ابن عباس قال: أمروا أن يقولوا: نستغفر اللّه فإن يك كذلك فينبغى أن تكون: {حِطَّة} منصوبة في القراءة لأنك تقول: قلت لا إله إلا اللّه، فيقول القائل: قلت كلمة صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمار ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول كقولك: مررت بزيد، ثم تجعل هذه كلمة فتقول: قلت كلاما حسنا ثم تقول:
قلت زيد قائم، فيقول: قلت كلاما. وتقول: قد ضربت عمرا، فيقول أيضا:
قلت كلمة صالحة.
فأما قول اللّه تبارك وتعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَة رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفع لأن قبله ضمير أسمائهم سيقولون: هم ثلاثة، إلى آخر الآية.
وقوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَة انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} رفع أي قولوا: اللّه واحد، ولا تقولوا الآلهة ثلاثة. وقوله: {قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ} ففيها وجهان: إن أردت: ذلك الذي قلنا معذرة إلى ربكم رفعت، وهو الوجه. وإن أردت: قلنا ما قلنا معذرة إلى اللّه فهذا وجه نصب. وأما قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَة فَإِذا بَرَزُوا} فإن العرب لا تقوله إلّا رفعا وذلك أنّ القوم يؤمرون بالأمر يكرهونه فيقول أحدهم: سمع وطاعة، أي قد دخلنا أوّل هذا الدّين على أن نسمع ونطيع فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثم يخرجون فيخالفون، كما قال عز وجل: {فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَة مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أي فإذا خرجوا من عندك بدّلوا. ولو أردت في مثله من الكلام: أي نطيع، فتكون الطاعة جوابا للأمر بعينه جاز النصب، لأنّ كلّ مصدر وقع موقع فعل ويفعل جاز نصبه، كما قال اللّه تبارك وتعالى: {مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ} معناه واللّه أعلم:
نعوذ باللّه أن نأخذ. ومثله في النور: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَة مَعْرُوفَة} الرفع على ليكن منكم ما يقوله أهل السّمع والطاعة. وأما قوله في النحل: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فهذا قول أهل الجحد لأنهم قالوا لم ينزل شيئا، إنما هذا أساطير الأوّلين وأما الذين آمنوا فإنهم أقرّوا فقالوا: أنزل ربّنا خيرا، ولو رفع خير على: الذي أنزله خير لكان صوابا، فيكون بمنزلة قوله: {يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} و: {قُلِ الْعَفْوَ} النّصب على الفعل: ينفقون العفو، والرفع على: الذي ينفقون عفو الأموال. وقوله: {قالُوا سَلامًا قالَ سَلام} فأما السلام فقول يقال، فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنّك قلت: قلت كلاما.
وأما قوله: {قالَ سَلام} فإنه جاء فيه نحن: {سَلام} وأنتم: {قَوْم مُنْكَرُونَ}.
وبعض المفسرين يقول: {قالُوا سَلامًا قالَ سَلام} يريد سلّموا عليه فردّ عليهم، فيقول القائل: ألا كان السّلام رفعا كلّه أو نصبا كلّه؟ قلت: السّلام على معنيين:
إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه: {عليكم} رفعته. فإن شئت طرحت الإضمار من أحد الحرفين وأضمرته في أحدهما، وإن شئت رفعتهما معا، وإن شئت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلام: سلام، على معنى قالوا السلام عليكم فردّ عليهم الآخرون. والنصب يجوز في إحدى القراءتين: {قالوا سلاما قال سلاما}. وأنشدنى بعض بنى عقيل:
فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها ** فما كان إلّا ومؤها بالحواجب

فرفع السّلام لأنه أراد سلّمنا عليها فاتّقت أن تردّ علينا. ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك: قلنا الكلام، قلنا السلام، ومثله: قرأت: {الحمد} وقرأت: {الحمد} إذا قلت قرأت: {الحمد} أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية على قرأت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
وقوله: {اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا (60)}.
معناه- واللّه أعلم- فضرب فانفجرت، فعرف بقوله: {فَانْفَجَرَتْ} أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب لأنه قد أدّى عن المعنى، فكذلك قوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} ومثله في الكلام أن تقول: أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجرت فاكتسبت.
وأما قوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ (60)}.
فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم ونحن نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمنّ من اللّه والتّفضل على عباده، ولم يقل: قد علم كل أناس مشربهم، لغيرهم؟ وإنما كان ذلك- واللّه أعلم- لأنّه حجر انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط لكل سبط عين، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم عاد الحجر كما كان وذهبت العيون، فإذا احتاجوا انفجرت العيون من تلك المواضع، فأتى كل سبط عينهم التي كانوا يشربون منها.
وأما قوله: {وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها (61)}.
فإن الفوم فيما ذكر لغة قديمة وهي الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فوّموا لنا بالتشديد لا غير، يريدون اختبزوا وهى في قراءة عبد اللّه: {وثومها} بالثاء، فكأنّه أشبه المعنيين بالصّواب لأنّه مع ما يشاكله: من العدس والبصل وشبهه. والعرب تبدل الفاء بالثّاء فيقولون: جدث وجدف، ووقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ، والأثاثىّ والأثافىّ. وسمعت كثيرا من بنى أسد يسمّى المغافير المغاثير.
وقوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْر (61)}.
أي الذي هو أقرب، من الدّنوّ، ويقال من الدّناءة. والعرب تقول: إنه لدنىّ ولا يهمزون يدنّى في الأمور أي يتّبع خسيسها وأصاغرها. وقد كان زهير الفرقبى يهمز: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالّذى هو خير} ولم نر العرب تهمز أدنى إذا كان من الحسّة، وهم في ذلك يقولون إنه لدانئ خبيث إذا كان ماجنا فيهمزون. وأنشدنى بعض بنى كلاب:
باسلة الوقع سرابيلها ** بيض إلى دانئها الظّاهر

يعنى الدروع على خاصّتها- يعنى الكتيبة- إلى الخسيس منها، فقال: دانئها يريد الخسيس. وقد كنا نسمع المشيخة يقولون: ما كنت دانئا ولقد دنات، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلّا وقد سمعوه.
وقوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا (61)}.
كتبت بالألف، وأسماء البلدان لا تنصرف خفّت أو ثقلت، وأسماء النساء إذا خفّ منها شيء جرى إذا كان على ثلاثة أحرف وأوسطها ساكن مثل دعد وهند وجمل. وإنما انصرفت إذا سمّى بها النّساء لأنها تردّد وتكثر بها التّسمية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا تكاد تعود. فإن شئت جعلت الألف التي في: {مصرا} ألفا يوقف عليها، فإذا وصلت لم تنوّن فيها، كما كتبوا: {سلاسلا} و: {قَوارِيرَ}.
بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت: {مصر} غير المصر التي تعرف، يريد اهبطوا مصرا من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار. والوجه الأوّل أحبّ إلىّ لأنها في قراءة عبد اللّه: {اهبطوا مصر} بغير ألف، وفى قراءة أبىّ: {اهبطوا فإنّ لكم ما سألتم واسكنوا مصر} وتصديق ذلك أنها في سورة يوسف بغير ألف: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}.
وقال الأعمش وسئل عنها فقال: هي مصر التي عليها صالح بن علىّ.
وقوله: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ (63)}.
يقول: بجدّ وبتأدية ما افترض عليكم فيه.
وقوله: {فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها (66)}.
يعنى المسخة التي مسخوها جعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها: ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مسخوا فيمسخوا.
وقوله: {أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ (67)}.
وهذا في القرآن كثير بغير الفاء، وذلك لأنه جواب يستغنى أوّله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا فكأنّ حسن السّكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه في رءوس الآيات- لأنها فصول- حسنا من ذلك: {قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا} والفاء حسنة مثل قوله: {فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولو كان على كلمة واحدة لم تسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قمت ففعلت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا قلت قال، حتى يقولوا: قلت فقال، وقمت فقام لأنها نسق وليست باستفهام يوقف عليه ألا ترى أنه: {قالَ} فرعون: {لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} فيما لا أحصيه. ومثله من غير الفعل كثير في كتاب اللّه بالواو وبغير الواو فأما الذي بالواو فقوله: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثم قال بعد ذلك: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ}. وقال في موضع آخر: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ} وقال في غير هذا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} ثم قال في الآية بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ولم يقل: وإنّ.
فاعرف بما جرى تفسير ما بقي، فإنّه لا يأتى إلا على الذي أنبأتك به من الفصول أو الكلام المكتفي يأتى له جواب. وأنشدنى بعض العرب:
لمّا رأيت نبطا أنصارا ** شمّرت عن ركبتى الإزارا

كنت لها من النّصارى جارا.
وقوله: {لا فارِض وَلا بِكْر عَوان بَيْنَ ذلِكَ (68)}.
والعوان ليست بنعت للبكر لأنها ليست بهرمة ولا شابّة انقطع الكلام عند قوله: {وَلا بِكْر} ثم استأنف فقال: {عَوان بَيْنَ ذلِكَ} والعوان يقال منه: قد عوّنت. والفارض: قد فرضت، وبعضهم: قد فرضت وأما البكر فلم نسمع فيها بفعل. والبكر يكسر أوّلها إذا كانت بكرا من النّساء. والبكر مفتوح أوّله من بكارة الإبل. ثم قال: {بَيْنَ ذلِكَ} و{بَيْنَ} لا تصلح إلّا مع اسمين فما زاد، وإنّما صلحت مع {ذلِكَ} وحده لأنّه في مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان بذلك وذاك ألا ترى أنّك تقول: أظنّ زيدا أخاك، وكان زيد أخاك، فلابد لكان من شيئين، ولابد لأظن من شيئين، ثم يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنّ ذلك. وإنما المعنى في الأسمين اللذين ضمّهما ذلك: بين الهرم والشّباب. ولو قال في الكلام: بين هاتين، أو بين تينك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما لم يظهر إلا بتثنية لأنهما اسمان ليسا بفعلين، وأنت تقول في الأفعال فتوحّد فعلهما بعدها.
فتقول: إقبالك وإدبارك يشقّ علىّ، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورنى. ومما يجوز أن يقع عليه بين وهو واحد في اللّفظ مما يؤدّى عن الاثنين فما زاد قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ولا يجوز: لا نفرق بين رجل منهم لأنّ أحدا لا يثنّى كما يثنى الرجل ويجمع، فإن شئت جعلت أحدا في تأويل اثنين، وإن شئت في تأويل أكثر من ذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} وتقول: بين أيّهم المال؟ وبين من قسم المال؟ فتجرى من وأي. مجرى أحد لأنّهما قد يكونان لواحد ولجمع.
وقوله: {ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها (69)}.
اللّون مرفوع لأنك لم ترد أن تجعل: {ما} صلة فتقول: بيّن لنا ما لونها ولو قرأ به قارئ كان صوابا، ولكنه أراد- واللّه أعلم-: ادع لنا ربك يبيّن لنا أىّ شيء لونها، ولم يصلح للفعل الوقوع على أىّ لأن أصل أي تفرّق جمع من الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداء هي أم صفراء؟ فلما لم يصلح للتّبيّن أن يقع على الاستفهام في تفرّقه لم يقع على أىّ لأنها جمع ذلك المتفرّق، وكذلك ما كان في القرآن مثله، فأعمل في: {ما} وأىّ الفعل الذي بعدهما، ولا تعمل الذي قبلهما إذا كان مشتقّا من العلم كقولك:
ما أعلم أيّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أيّهم قال ذاك، وما أدرى أيّهم ضربت، فهو في العلم والإخبار والإنباء وما أشبهها على ما وصفت لك. منه قول اللّه تبارك وتعالى: {وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ} {وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ} {ما} الثانية رفع، فرفعتها بيوم كقولك: ما أدراك أىّ شيء يوم الدّين، وكذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} رفعته بأحصى، وتقول إذا كان الفعل واقعا على أىّ: ما أدرى أيّهم ضربت. وإنما امتنعت من أن توقع على أي.
وقال الفرّاء: أي يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وإنما يرفعها أو ينصبها ما بعدها كقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} فرفع، وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}- الفعل الذي قبلها من العلم وأشباهه لأنك تجد الفعل غير واقع على أىّ في المعنى ألا ترى أنك إذا قلت: اذهب فاعلم أيّهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الذي أعلمك، كما أنك تقول: سل أيّهم قام، والمعنى: سل الناس أيّهم قام. ولو أوقعت الفعل على: {أَيَّ} فقلت: اسأل أيّهم قام لكنت كانك تضمر أيّا مرّة أخرى لأنك تقول: سل زيدا أيّهم قام، فإذا أوقعت الفعل على زيد فقد جاءت: {أى} بعده. فكذلك: {أى} إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك إن أردته، جائز، تقول: لأضربنّ أيّهم يقول ذاك لأنّ الضرب لا يقع على اسم ثم يأتى بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على اثنين، وأنت تقول في المسألة: سل عبد اللّه عن كذا، كأنك قلت:
سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عبد اللّه كذا وكذا إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا. وقول اللّه: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا} من نصب أيّا أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثم لنستخرجن العاتي الذي هو أشد. وفيها وجهان من الرفع أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بمن في الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا من كل طعام، ثم تستأنف أيّا فترفعها بالذي بعدها، كما قال جلّ وعزّ: {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي ينظرون أيّهم أقرب. ومثله: {يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. وأما الوجه، الآخر فإن في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشدّ وأخبث، وأيهم أشدّ على الرحمن عتيّا، والشيعة ويتشايعون سواء في المعنى. وفيه وجه ثالث من الرفع أن تجعل: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} بالنداء أي لننادين: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا} وليس هذا الوجه يريدون. ومثله مما تعرفه به قوله: {أفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} فقال بعض المفسرين: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} ألم يعلم، والمعنى- واللّه أعلم- أفلم ييأسوا علما بأن اللّه لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك: {لَنَنْزِعَنَّ} يقول يريد ننزعهم بالنداء.
وقوله: {مُسَلَّمَة لا شِيَةَ فِيها (71)}.
غير مهموز يقول: ليس فيها لون غير الصّفرة. وقال بعضهم: هي صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران.